فصل: بَابُ الْكِسْوَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْيَمِينِ فِي الشَّرَابِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَجُلٌ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا فَأَيُّ شَرَابٍ شَرِبَهُ مِنْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَنِثَ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرَابَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ فِعْلُ الشُّرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّهُ، وَالْمَاءُ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ شَرَابٌ طَهُورٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ شَرَابٍ تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَإِنْ عَيَّنَ شَرَابًا بِعَيْنِهِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا، فَأَيُّ نَبِيذٍ شَرِبَهُ حَنِثَ، وَالنَّبِيذُ الزَّبِيبُ أَوْ التَّمْرُ يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ، فَتُسْتَخْرَجُ حَلَاوَتُهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ شَرَابًا مَأْخُوذًا مِنْ النَّبْذِ، وَهُوَ الطَّرْحُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} فَإِنْ شَرِبَ مُسْكِرًا أَوْ فَضِيخًا أَوْ عَصِيرًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيذٍ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّبِيذِ عَادَةً، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا بِالْفَارِسِيَّةِ اسْمُ النَّبِيذِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ، وَالْأَيْمَانُ تَنْبَنِي عَلَى الْعُرْفِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً، فَشَرِبَ نَبِيذًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَإِنْ طُبِخَ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ الْمَاءِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَعَ فُلَانٍ شَرَابًا، فَشَرِبَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ شَرَابٍ وَاحِدٍ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبَانِ مِنْهُ مُخْتَلِفًا، فَإِنْ شَرِبَ الْحَالِفُ مِنْ شَرَابٍ، وَالْآخَرُ مِنْ شَرَابٍ غَيْرِهِ، وَقَدْ ضَمَّهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ مُنَادَمَتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إذَا جَمَعَهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرَابُ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا، وَالْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبَانِ فِيهِ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ مَعَ الْغَيْرِ هَكَذَا يَكُونُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِيرَ مَعَ نُدَمَائِهِ يَشْرَبُ، ثُمَّ إنَاؤُهُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ غَيْرُ إنَائِهِمْ، وَرُبَّمَا يَشْرَبُ الصَّرْفَ، وَيَمْزُجُ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى شَرَابًا وَاحِدًا حِينَ حَلَفَ فَحِينَئِذٍ قَدْ نَوَى أَكْمَلَ مَا يَكُونُ مِنْ الشُّرْبِ مَعَ فُلَانٍ، وَنِيَّتُهُ لِذَلِكَ صَحِيحٌ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، فَأَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْفِعْلُ يَتَحَقَّقُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَإِذَا عَنِيَ الْمَاءَ كُلَّهُ وَالطَّعَامَ، لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ وَالطَّعَامَ اسْمُ جِنْسٍ، فَإِذَا عَنِيَ الْكُلَّ، فَإِنَّمَا نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فَلَا يَحْنَثُ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ كُلَّهُ، وَلَا أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ شَرَابًا، وَهُوَ يَعْنِي لَا يَشْرَبُ النَّبِيذَ خَاصَّةً، فَأَكَلَهُ أَكْلًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّرَابَ، وَالشَّرَابُ يُشْرَبُ، فَنِيَّةُ الشُّرْبِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الذَّوْقِ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الشُّرْبِ، لَمْ يَحْنَثْ بِالْأَكْلِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ لَبَنًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَكَلَهُ، أَوْ شَرِبَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَاقَهُ، وَزَادَ عَلَيْهِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ دِجْلَةَ، فَغَرَفَ مِنْهَا بِقَدَحٍ وَشَرِبَهُ، لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، إلَّا أَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَى دِجْلَةَ بِعَيْنِهَا فَيَشْرَبَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ مِنْ دِجْلَةَ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَهْلُ بَلْدَةِ كَذَا يَشْرَبُونَ مِنْ دِجْلَةَ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِطَرِيقِ الِاغْتِرَافِ فِي الْأَوَانِي، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: حَقِيقَةُ الشُّرْبِ مِنْ دِجْلَةَ يَكُونُ بِالْكُرَاعِ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ، جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ نَزَلَ عِنْدَهُمْ: «هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا؟» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً، فَاللَّفْظُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دُونَ الْمَجَازِ، وَالْحَقِيقَةُ مُرَادَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَرَعَ يَحْنَثُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الشُّرْبِ مِنْ دِجْلَةَ؛ لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَالْحَقِيقَةُ أَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَى بَعْضِ دِجْلَة، وَالْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَجَازُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَلِهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْحِنْطَةِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ عِنْدَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ، إنَّمَا يَحْنَثُ لِعُمُومِ الْمَجَازِ.
(قَالَ): أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْجُبِّ، فَغَرَفَ مِنْهُ بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ مَلْآنًا، فَيَمِينُهُ عَلَى الْكَرْعِ خَاصَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلْآنًا، فَحِينَئِذٍ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْكَرْعَ لَا يَتَأَتَّى هُنَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ، وَإِنْ تَكَلَّفَ لِلْكَرْعِ مِنْ الْبِئْرِ، فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّقِيقِ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ الْكِسْوَةِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَوْبًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَاشْتَرَى كِسَاءَ خَزٍّ أَوْ طَيْلَسَانًا أَوْ فَرْوًا أَوْ قَبَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَلْبَسُ النَّاسُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ حَقِيقَةٌ لِهَذَا وَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ عُرْفًا، وَإِنْ اشْتَرَى مِسْحًا أَوْ بِسَاطًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَادَةً وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَلْبُوسِ بَنِي آدَمَ، وَفِي الْأَيْمَانِ لِلْعَادَةِ عِبْرَةٌ.
وَلَوْ اشْتَرَى قَلَنْسُوَةً لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَوْبٍ فَالثَّوْبُ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى خِرْقَةً لَا تَكُونُ أَيْ لَا تَبْلُغُ نِصْفَ ثَوْبٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَإِنْ اشْتَرَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الثَّوْبِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَنْطَلِقُ عَلَى أَكْثَرِ الثَّوْبِ وَلِأَنَّهُ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى ثَوْبًا صَغِيرًا حَنِثَ وَمُرَادُهُ مَا يَكُونُ إزَارًا أَوْ سَرَاوِيلَ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا فَلَوْ سَمَّى ثَوْبًا بِعَيْنِهِ وَلَبِسَ مِنْهُ طَائِفَةً يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَابِسًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْبَسُ الرِّدَاءَ وَبَعْضُ جَوَانِبِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ فَاِتَّخَذَ مِنْهُ جُبَّةً وَحَشَاهَا وَلَبِسَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ لُبْسُ الْعَيْنِ وَعَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الثَّوْبِ وَالثَّوْبُ بَاقٍ بَعْدَ مَا اتَّخَذَ مِنْهُ الْجُبَّةَ فَإِنَّ لَابِسَ الْجُبَّةِ يُسَمَّى لَابِسًا لِلثَّوْبِ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ عَلَى قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ أَبَدًا فَجَعَلَ مِنْهُ قَبَاءً فَلَبِسَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الْقَمِيصِ وَلَا يَبْقَى هَذَا الِاسْمُ بَعْدَ مَا جَعَلَهُ قَبَاءً أَلَا تَرَى أَنَّ لَابِسَ الْقَبَاءِ لَا يُسَمَّى لَابِسًا لِلْقَمِيصِ؟
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ شَيْئًا فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْغَزْلِ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ غَيْرُ الْغَزْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ غَزْلًا فَنَسَجَهُ كَانَ الثَّوْبُ لَهُ؟ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَلُفُّ الْغَزْلَ عَلَى نَفْسِهِ هَكَذَا، وَلَوْ فَعَلَهُ لَا يُسَمَّى لَابِسًا ثَوْبًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى لَابِسًا لِلْغَزْلِ، وَإِنْ نَوَى الْغَزْلَ بِعَيْنِهِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَجَ لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَبِسَهُ يَعْنِي ثَوْبًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا وَغَزْلِ أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ غَزْلِهَا بَعْضُ الثَّوْبِ، وَيَسْتَوِي إنْ نُسِجَ غَزْلُهُمَا مُخْتَلَطًا أَوْ غَزْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي جَانِبٍ عَلَى حِدَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ شِرَاءِ فُلَانٍ وَهَذَا إذَا كَانَ فُلَانٌ ذَلِكَ يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ وَالنَّسْجَ بِيَدِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَنْسِجُ لَهُ غِلْمَانُهُ وَأُجَرَاؤُهُ فَهُوَ حَانِثٌ إذَا لَبِسَ ثَوْبًا نَسَجُوهُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحَالِفِ مُعْتَبَرٌ فِي الْيَمِينِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خَزًّا فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ هَذَا الَّذِي يُسَمِّيه النَّاسُ الْخَزُّ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُرْفَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ طَرَأَ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ مَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَرِيرًا أَوْ إبْرَيْسَمًا فَلَبِسَ ثَوْبَ خَزٍّ سَدَاهُ حَرِيرٌ وَإِبْرَيْسَمٌ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يُنْسَبُ إلَى سَدَاهُ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى لُحْمَتِهِ فَإِنَّ اللُّحْمَةَ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ دُونَ السَّدَا، أَلَا تَرَى أَنَّ لُبْسَ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى الذُّكُورِ ثُمَّ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْعَتَّابِيِّ وَالْمُصْمَتِ وَإِنْ كَانَ سَدَاهُ حَرِيرًا؛ لِأَنَّ لُحْمَتَهُ غَزْلٌ؟ وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لُحْمَتُهُ إبْرَيْسَمٌ أَوْ حَرِيرٌ حَنِثَ عِنْدنَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ حَرِيرًا كُلَّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ لُبْسُهُ؟ وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ اللَّوْنَ وَالْبَرِيقَ فَيَقُولُ: إنْ كَانَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ بَرِيقَ الْإِبْرَيْسَمِ وَلِينَهُ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخَزِّ وَلَا مَعْنًى لِلْفَرْقِ سِوَى الْعُرْفِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُسَمُّونَهُ ثَوْبَ الْخَزِّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لُحْمَتُهُ خَزًّا وَلَا يُسَمُّونَهُ ثَوْبَ الْحَرِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَرِيرًا كُلَّهُ أَوْ يَكُونَ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا.
(قَالَ) إلَّا أَنْ يَعْنِيَ سَدَا الثَّوْبِ أَوْ لُحْمَتَهُ أَوْ عَلَمَهُ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ إذَا لَبِسَهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّتِهِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قُطْنًا فَلَبِسَ ثَوْبَ قُطْنٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ هَكَذَا يُلْبَسُ، وَإِنْ لَبِسَ قَبَاءً لُبِسَ بِقُطْنِ وَلَكِنَّهُ مَحْشُوٌّ بِقُطْنٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ يُنْسَبُ إلَى الظِّهَارَةِ لَا إلَى الْحَشْوِ، وَلَا يُسَمَّى فِي النَّاسِ لَابِسًا لِلْحَشْوِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى لَابِسًا لِلْقَبَاءِ الْمَحْشُوِّ فَلَا يَحْنَثُ لِكَوْنِ حَشْوِهِ قُطْنًا إلَّا أَنْ يَعْنِيَهُ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ كَتَّانًا فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَبِسَ الْكَتَّانَ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ كَتَّانٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى الثَّوْبَ فَشَرْطُ حِنْثِهِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ كَتَّانًا وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِذَا سَمَّى الْكَتَّانَ فَشَرْطُ حِنْثِهِ وَهُوَ لُبْسُ الْكَتَّانِ قَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: هَذَا ثَوْبُ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ فَإِنَّ الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ يَسْتَوِيَانِ فِي إضَافَةِ الثَّوْبِ إلَيْهِمَا فَلَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْخَزِّ فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الْإِبْرَيْسَمِ فِي نِسْبَةِ الثَّوْبِ إلَيْهِ وَبِخِلَافِ الْإِبْرَيْسَمِ مَعَ الْغَزْلِ فَإِنَّ الْإِبْرَيْسَمَ يَغْلِبُ عَلَى الْغَزْلِ فِي نِسْبَةِ الثَّوْبِ إلَيْهِ حَتَّى يُسَمَّى مُلْحَمًا وَإِنْ كَانَ سَدَاهُ قُطْنًا وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الْقُطْنَ فَجَعَلَهُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ هَكَذَا يُلْبَسُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بَنَى هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ فَلَا يَشْكُلُ عَلَى مَنْ يَتَأَمَّلُ فِي كَلَامِ النَّاسِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا قَدْ سَمَّاهُ بِعَيْنِهِ فَاتَّزَرَ بِهِ أَوْ ارْتَدَى أَوْ اشْتَمَلَ بِهِ حَنِثَ، وَالْقَمِيصُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ قَمِيصًا فَاتَّزَرَ بِقَمِيصٍ أَوْ ارْتَدَى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْقِيَاسِ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصْفَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مُعْتَبَرٌ وَفِي الْمُعَيَّنِ لَا يُعْتَبَرُ إنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِوَصْفِهِ، ثُمَّ لُبْسُ الْقَمِيصِ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُتَعَارَفٌ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْقَمِيصَ انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى اللُّبْسِ بِالصِّفَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَإِذَا اتَّزَرَ بِهِ أَوْ ارْتَدَى بِهِ لَمْ يَحْنَثْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَا لَبِسْت الْيَوْمَ قَمِيصًا كَانَ صِدْقًا؟ وَأَمَّا فِي الْمُعَيَّنِ لَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ لَبِسَهُ كَانَ حَانِثًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَا لَبِسْت هَذَا الْقَمِيصَ وَقَدْ اتَّزَرَ بِهِ كَانَ كَاذِبًا؟ وَإِنْ لَبِسَ قَمِيصًا لَيْسَ لَهُ كُمَّانِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَمِيصًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُمٌّ؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ كَالدِّرْعِ وَقَدْ يَشْتَرِي الرَّجُلُ لِدِرْعِهِ كُمَّيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَمِيصَ وَالدِّرْعَ يُنْسَبُ إلَى الْبَدَنِ فَلَا يَنْعَدِمُ الِاسْمُ بِعَدَمِ الْكُمَّيْنِ، كَالرَّجُلِ يُسَمَّى رَجُلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدَانِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا فَوَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ يُرِيدُ بِهِ الْحَمْلَ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ حَافِظٌ لَا مُسْتَعْمِلٌ لَابِسٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْأَمَانَةِ لَمْ يَضْمَنْ؟ وَإِنْ نَوَى نَوْعًا مِنْ الثِّيَابِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُدَنْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ ثَوْبِ فُلَانٍ شَيْئًا وَهُوَ يَنْوِي مَا عِنْدَهُ فَاشْتَرَى فُلَانٌ ثِيَابًا فَلَبِسَ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَإِنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ فِي مِلْكٍ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ وَنَوَى حَقِيقَةَ الْإِضَافَةِ فِي الْحَالِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَيُجْعَلُ مَا نَوَى كَالْمَلْفُوظِ بِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا شَيْئًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَكَسَاهُ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَعْلَيْنِ أَوْ جَوْرَبَيْنِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمْلِيكِ وَمَا مَلَكَهُ شَيْءٌ فَيَتِمُّ شَرْطُ حِنْثِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُوهُ ثَوْبًا فَإِنَّ الثَّوْبَ مَا يَكُونُ سَاتِرًا لِبَدَنِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخُفِّ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَلِهَذَا لَا تَتَأَدَّى بِهِمَا الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُوهُ ثَوْبًا فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا كَسَاهُ الثَّوْبَ وَإِنَّمَا وَهَبَ لَهُ الدَّرَاهِمَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمَشُورَةٍ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا وَإِنْ شَاءَ غَيْرَهُ فَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِثَوْبِ كِسْوَةٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَسَاهُ فَإِنَّ فِعْلَ رَسُولِهِ كَفِعْلِهِ فَإِنْ نَوَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سِلَاحًا فَتَقَلَّدَ سَيْفًا أَوْ تَنَكَّبَ قَوْسًا أَوْ تُرْسًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي النَّاسِ لَابِسًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى مُتَقَلِّدًا لِلسَّيْفِ أَوْ حَامِلًا لِلسِّلَاحِ أَوْ مُعَلِّقًا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ لَبِسَ دِرْعَ حَدِيدٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ لَابِسًا لِلسِّلَاحِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ دِرْعًا فَلَبِسَ دِرْعَ حَدِيدٍ أَوْ دِرْعَ امْرَأَةٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدِّرْعِ تَنَاوَلَهُمَا حَقِيقَةً وَعَادَةً فَإِنْ عَنِيَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِلُبْسِ مَا عَنِيَ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شَيْئًا فَلَبِسَ دِرْعَ حَدِيدٍ أَوْ دِرْعَ امْرَأَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ قَلَنْسُوَةً حَنِثَ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ اللُّبْسِ فِي مَحَلٍّ هُوَ شَيْءٌ وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَفِعْلُ اللُّبْسِ يُوجَدُ فِي كُلِّهَا فَلِهَذَا حَنِثَ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْيَمِينِ:

(قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا مَالَهُ رَأْسَ الشَّهْرِ أَوْ عِنْدَ الْهِلَالِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ وَيَوْمُهَا كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ جُزْءٌ مِنْ الزَّمَانِ يَشْتَمِلُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَرَأْسُ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلُهُ، فَأَوَّلُ اللَّيْلَةِ وَأَوَّلُ الْيَوْمِ مِنْ الشَّهْرِ يَكُونُ رَأْسَ الشَّهْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ: الْيَوْمُ رَأْسُ الشَّهْرِ وَإِنَّمَا أَهَلَّ الْبَارِحَةَ، وَعِنْدَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُرْبِ وَذِكْرُهُ فِي الْمَعْنَى وَذِكْرُ الرَّأْسِ سَوَاءٌ وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيهِ حَقَّهُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا» وَالْمُرَادُ الْوَقْتُ، وَلِأَنَّ الْإِعْطَاءَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ لَا فِي الصَّلَاةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَقْتُ.
وَإِنْ قَالَ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَهُوَ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَهْي عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ النَّهْيُ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ.
وَإِنْ قَالَ: ضَحْوَةً فَوَقْتُ الضَّحْوَةِ مِنْ حِينَ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ.
وَإِنْ قَالَ: مَسَاءً فَالْمَسَاءُ مَسَاءَانِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَالْآخَرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَيُّهُمَا نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ.
وَإِنْ قَالَ: سَحَرًا فَوَقْتُ السَّحَرِ مِمَّا بَعْدَ ذَهَابِ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ الَّذِي سَمَّاهُ حَنِثَ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبِرِّ.
وَإِنْ قَالَ: يَوْمَ كَذَا فَلَهُ ذَلِكَ الْيَوْمُ كُلُّهُ فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ يَتَأَدَّى بِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ قَبْلَ مَجِيءِ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ ثُمَّ جَاءَ الْوَقْتُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ الْمُؤَقَّتَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ مُوجَبًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ تَرْكُ فِعْلِ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَيْهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَى إلَى وَكِيلِ الطَّالِبِ بَرَّ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَى وَكِيلِ الطَّالِبِ كَدَفْعِهِ إلَى الطَّالِبِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يُعْطِيَهُ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَأَعْطَاهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْإِعْطَاءِ وَجَعَلَ لِذَلِكَ غَايَةً وَهُوَ إذْنُ فُلَانٍ فَبِمَوْتِ فُلَانٍ تَفُوتُ الْغَايَةُ وَذَلِكَ يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الْيَمِينِ مُطْلَقَةً لِإِطْلَاقِهَا وَإِذْنُ فُلَانٍ كَانَ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ فَبِفَوَاتِهِ يَتَحَقَّقُ اتِّحَادُ شَرْطِ الْحِنْثِ وَلَا يَنْعَدِمُ وَهُمَا يَقُولَانِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ الدَّفْعِ إلَى غَايَةٍ وَهُوَ إذْنُ فُلَانٍ وَقَدْ فَاتَ إذْنُهُ بِمَوْتِهِ فَيَفُوتُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْعَقْدُ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ بَقِيَتْ حُرْمَةُ الدَّفْعِ مُطْلَقًا لَا مُؤَقَّتًا وَهَذَا الْمُطْلَقُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِيَمِينِهِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ بَعْدُ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ تَرْكَ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ الْإِعْطَاءِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَفُوتُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِمَوْتِ فُلَانٍ.
وَإِنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا مَالَهُ وَفُلَانٌ قَدْ مَاتَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حِنْثٌ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ حِينَ حَلَفَ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ أَوْ لَيُكَلِّمَنَّهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَحَلِّهَا فَانْعَقَدَتْ، ثُمَّ شَرْطُ الْبِرِّ فَاتَ مِنْهُ، وَفَوَاتُ شَرْطِ الْبِرِّ يُوجِبُ الْحِنْثَ كَمَا لَوْ كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ أَوْ كَانَ حَيًّا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِي الْمُسْتَقْبِلِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَالِفُ قَادِرًا عَلَيْهِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَأُحَوِلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ؟ لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى خَبَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَاجِزًا عَنْ إيجَادِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: مَحَلُّ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْحَظْرِ أَوْ لِلْإِيجَابِ أَوْ لِإِظْهَارِ مَعْنَى الصِّدْقِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ فَلَا تَنْعَقِدُ أَصْلًا كَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ ثُمَّ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ فَمَقْصُودُهُ إزْهَاقُ رُوحٍ مَوْجُودَةٍ فِيهِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَلَا تَصَوُّرَ لِهَذَا إذَا كَانَ مَيِّتًا، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ فَمَقْصُودُهُ إزْهَاقُ رُوحٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ إذَا أَحْيَاهُ، وَذَلِكَ مُتَوَهَّمٌ فَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ حَنِثَ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَمَّا هُوَ شَرْطُ الْبِرِّ ظَاهِرًا، وَعَلَى هَذَا: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِي الْكُوزِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى خَبَرٍ لَيْسَ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ، إلَّا أَنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْكُوزَ لَا مَاءَ فِيهِ أَوْ لَا يَعْلَمَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى شُرْبِ الْمَاءِ الْمَوْجُودِ فِي الْكُوزِ وَاَللَّهِ تَعَالَى إنْ أَحْدَثَ فِي الْكُوزِ مَاءً فَلَيْسَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْيَمِينِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ فِي فُلَانٍ فَإِذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ فُلَانٌ فَكَانَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ مُتَوَهَّمًا.
وَوِزَانُ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ إنْ لَوْ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّ هَذَا الْمَيِّتَ فَإِنَّ يَمِينَهُ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِيهِ فِعْلُ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ مَيِّتًا، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ضِدِّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَوَهَّمُهُ بِجَعْلِهِ كَالْمَوْجُودِ حَقِيقَةً فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ فَهُوَ آثِمٌ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَمِينِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِيَمِينِهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الِاسْمِ بِاسْتِعْمَالِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ لِعَقْدِ الْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ: انْعِقَادُ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ، فَإِنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسٌ وَالْمَلَائِكَةُ يَصْعَدُونَ السَّمَاءَ.
وَلَوْ أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صُعُودِ السَّمَاءِ يَصْعَدُ وَكَذَلِكَ الْحَجَرُ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلتَّحَوُّلِ لِوُجُودِهِ فَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ حَنِثَ فِي الْحَالِ لِعَجْزِهِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الْبِرِّ ظَاهِرًا وَذَلِكَ كَافٍ لِلْحِنْثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ يَحْنَثُ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ؛ لِوُجُودِ الْعَجْزِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الْبِرِّ ظَاهِرًا وَلَا فَائِدَةَ فِي انْتِظَارِ الْمَوْتِ هُنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَجْزَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ وَلَا يُقَالُ: إعَادَةُ الزَّمَانِ الْمَاضِي فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا وَقَدْ فَعَلَهُ لِسُلَيْمَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْتُمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلٍ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا كَوْنَ لَهُ وَاَللَّهِ تَعَالَى.
وَإِنْ أَعَادَ الزَّمَانَ الْمَاضِيَ لَا يَصِيرُ الْفِعْلُ مَوْجُودًا مِنْ الْحَالِفِ حَتَّى يَفْعَلَهُ وَفِي مَسْأَلَةِ مَسِّ السَّمَاءِ لَوْ وَقَّتَ يَمِينَهُ لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يَمْضِ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ انْعِقَادَ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَوَقَّتُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ إذَا كَانَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ كَانَ تَوْقِيتُهُ لَغْوًا فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ، وَهَكَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةِ شُرْبِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ إذَا وَقَّتَ يَمِينَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ حَنِثَ فِي الْحَالِ.
وَلَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ طَلُقَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ فَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ وَهُوَ إتْيَانُ الْبَصْرَةِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّهُ يَحْنَثُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنَّهُ كَمَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ وَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ إتْيَانِ الْبَصْرَةِ حَنِثَ حَتَّى إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَتَعْتَدُّ إلَى أَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ الْفَارِّ، فَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَهُوَ حَيٌّ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْيَانِ الْبَصْرَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ الْحِنْثِ بِمَوْتِهَا.
وَلَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ إنْ لَمْ تَأْتِ الْبَصْرَةَ هِيَ فَمَاتَتْ فَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهَا عَنْ إتْيَانِ الْبَصْرَةِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتِهَا، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِ الْبَصْرَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ كُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظُ الْمَوْجُودَ فِي مِلْكِهِ حِينَ حَلَفَ، فَإِنْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ إلَى وَقْتِ الْكَلَامِ عَتَقَ وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ حِينَ حَلَفَ مَمْلُوكٌ لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ.
وَلَوْ قَالَ: إذَا كَلَّمْت فُلَانًا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمَ أُكَلِّمُهُ حُرٌّ فَهُوَ كَمَا قَالَ، إذَا مَلَكَ مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ عَتَقَ.
وَإِنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَاشْتَرَى رَقِيقًا ثُمَّ كَلَّمَ فُلَانًا ثُمَّ اشْتَرَى آخَرِينَ عَتَقَ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ قَبْلَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَعْتِقْ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ بَعْدَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيه شَرْطٌ، وَقَوْلُهُ فَهُوَ حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا جَزَاءً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَزَاءَ مَا يَتَعَقَّبُ حَرْفَ الْجَزَاءِ، فَإِنَّمَا جَعَلَ الْجَزَاءَ عِتْقًا مُعَلَّقًا بِالْكَلَامِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ قَبْلَ الْكَلَامِ.
وَلَوْ تَنَاوَلَ كَلَامُهُ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ بَعْدَ الْكَلَامِ لَعَتَقُوا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي عَلَّقَهُ بِالشِّرَاءِ، وَإِنْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ إنْ لَمْ يُكَلِّمْ فُلَانًا فَمَاتَ الْحَالِفُ عَتَقَ الْعَبْدَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ فَوْتُ الْكَلَامِ فِي حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِهِ.
وَإِنْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَبَقِيَ الْحَالِفُ عَتَقَ الْعَبْدُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبِرِّ وَهُوَ الْكَلَامُ مَعَ فُلَانٍ فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَا يُكَلَّمُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَأَمَرَ رَجُلًا فَطَلَّقَهَا أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُوقِعَ لِلطَّلَاقِ هُوَ الزَّوْجُ وَلَكِنْ بِعِبَارَةِ الْوَكِيلِ أَوْ بِعِبَارَتِهَا وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِي الطَّلَاقِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ بَلْ هُوَ مُعَبَّرٌ عَنْ الْآمِرِ فَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ بِلِسَانِهِ فَحِينَئِذٍ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِطَلَاقِهَا، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَلِهَذَا لَوْ خَلَعَهَا وَقَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّ مَا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ وَقَصَدَهُ بِيَمِينِهِ قَدْ أَتَى بِهِ.
وَلَوْ آلَى مِنْهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَعِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا وَقَعَ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِهِ مَوْجُودًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ شَرْعًا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَفِي الْأُخْرَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ هُنَا: لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مُبَاشِرًا لِلطَّلَاقِ، وَذَلِكَ شَرْطُ حِنْثِهِ، وَالْعِتْقُ قِيَاسُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ فِيهِ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ وَقَعَ لَهُ دُونَ مَنْ بَاشَرَهُ.
فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَالْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حُقُوقِ الْعَقْدِ، فَلَا يَصِيرُ الْحَالِفُ بِفِعْلِ الْوَكِيلِ عَاقِدًا إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ لَا يَأْمُرَ غَيْرَهُ فَحِينَئِذٍ قَدْ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَتَقَيَّدُ بِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَزَوَّجَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ تَتَعَلَّقُ بِالْآمِرِ دُونَ الْعَاقِدِ، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُضِيفُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، وَكَذَلِكَ إنْ زَوَّجَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَهُ بِالْقَوْلِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ الْعَاقِدُ لَيْسَ بِمُعَبَّرٍ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَتِهِ وَالْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ النِّكَاحِ وَهُوَ الشُّهُودُ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ؟ فَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ وَفِي الْإِجَازَةِ بِالْفِعْلِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ بِالْفِعْلِ بِحَالٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُجِيزُ بِالْفِعْلِ عَاقِدًا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا إنَّمَا يَكُونُ رَاضِيًا وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْعَقْدُ دُونَ الرِّضَا.
وَإِنْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً قَبْلَ الْكَلَامِ وَأُخْرَى بَعْدَهُ تَطْلُقُ الَّتِي تَزَوَّجَ قَبْلَ الْكَلَامِ خَاصَّةً؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّزَوُّجَ شَرْطٌ، وَالطَّلَاقُ جَزَاءٌ مُعَلَّقٌ بِالْكَلَامِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الَّتِي تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْكَلَامِ دُونَ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا بَعْدَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ بِنَفْسِ التَّزَوُّجِ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ جَزَاءَ شَرْطِهِ وَفِيهِ اخْتِلَافُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْجَامِعِ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا وَقَّتَ يَمِينَهُ فَقَالَ: إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُوَقِّتْ وَبَيْنَ مَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ، أَوْ أَخَّرَ وَقَالَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَإِنَّمَا تَطْلُقُ بِهَذَا اللَّفْظِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ وَقَّتَ يَمِينَهُ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ.
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ لِرَجُلٍ شَيْئًا قَدْ سَمَّاهُ بِعَيْنِهِ فَبَاعَهُ لِآخَرَ طَلَبَهُ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا أَبِيعُ لِفُلَانٍ أَيْ لِأَجْلِ فُلَانٍ، وَمَا بَاعَ لِأَجْلِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا بَاعَهُ لِأَجْلِ مَنْ أَمَرَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا أَبِيعُ ثَوْبًا لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ لَا أَبِيعُ ثَوْبًا هُوَ مَمْلُوكٌ لِفُلَانٍ وَقَدْ وَجَدَ ذَلِكَ وَإِنْ أَمَرَهُ بِهِ غَيْرُهُ وَإِيضَاحُ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْجَامِعِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لِفُلَانٍ هِبَةً فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ فُلَانٌ أَوْ قَبِلَ وَلَمْ يَقْبِضْ فَهُوَ حَانِثٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ كَالْبَيْعِ وَفِي الْبَيْعِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ قَبُولِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَيْعِ: لَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْهِبَةُ تَبَرُّعٌ وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي جَانِبِ الْمُتَبَرِّعِ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَا يُقَابِلُهُ اسْتِيجَابٌ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُوجِبِ فِي حَقِّهِ كَالْإِقْرَارِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَإِيجَابٌ يُقَابِلُهُ اسْتِيجَابٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: وَهَبْت لِفُلَانٍ فَرَدَّ عَلَيَّ هِبَتِي، وَأَهْدَيْت إلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ هَدِيَّتِي وَكَذَلِكَ كُلُّ عَقْدٍ هُوَ تَبَرُّعٌ كَالصَّدَقَةِ وَالْقَرْضِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُقْرِضُ فُلَانًا شَيْئًا فَأَقْرَضَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ حَنِثَ، إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: فِي الْقَرْضِ لَا يَحْنَثُ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْقَرْضَ عَقْدُ ضَمَانٍ فَإِنَّهُ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمِثْلِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِقَبْضِهِ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُفَرِّقُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْتَقْرِضُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إذَا طَلَبَ الْقَرْضَ مِنْ آخَرَ.
وَإِنْ لَمْ يُقْرِضْهُ؛ لِأَنَّ السِّينَ فِي قَوْلِهِ اسْتَقْرَضْت لِمَعْنَى السُّؤَالِ فَإِنَّمَا شَرْطُ حِنْثِهِ طَلَبُ الْقَرْضِ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُقْرِضُ أَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى فَعَلَ حَنِثَ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُوهُ أَوْ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى دَابَّةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ فِيهَا بِالْعَاقِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا؟ وَإِنَّمَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ، أَوْ لَيَخِيطَنَّ ثَوْبَهُ، أَوْ لَيَبْنِيَنَّ دَارِهِ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ فَإِنَّ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ: بَنَى فُلَانٌ دَارًا أَوْ خَاطَ فُلَانٌ ثَوْبًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بَنَّاءً وَلَا خَيَّاطًا إلَّا أَنْ يَكُونَ عُنِيَ أَنْ يَبْنِيَهُ بِيَدِهِ فَحِينَئِذٍ الْمَنْوِيُّ حَقِيقَةً فِعْلِهِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ يَحْسُنُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ فَعَلْته وَقَدْ فَعَلَ وَكِيلُهُ.
وَلَوْ حَلَفَ عَلَى حُرٍّ لَيَضْرِبَنَّهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَضَرَبَهُ لَمْ يَبَرَّ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْحُرِّ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلضَّارِبِ حِلُّ الضَّرْبِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِهِ؟ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَأَمْرُ غَيْرِهِ بِضَرْبِهِ مُعْتَبَرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّارِبَ يَسْتَفِيدُ بِهِ حِلَّ الضَّرْبِ؟ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَرَفَّعُ مِنْ ضَرْبِ عَبْدِهِ بِيَدِهِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ مَقْصُودُهُ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْحُرِّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ السُّلْطَانَ أَوْ الْقَاضِيَ فَحِينَئِذٍ يَبَرُّ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ الضَّرْبَ بِنَفْسِهِ عَادَةً.
وَضَرْبُ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ يُضَافُ إلَيْهِ فَيُقَالُ: الْأَمِيرُ الْيَوْمَ ضَرَبَ فُلَانًا وَضَرَبَ الْقَاضِي فُلَانًا الْحَدَّ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِيَدِهِ فَحِينَئِذٍ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ وَيَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.